عند الحديث عن المعلم كل منا يتبادر إلى ذهنه فورًا صورة معلم ما قابله في مرحلة من حياته ويتذكره، وفي الغالب ما نتذكره عن معلمينا ونحن أطفال يتعلق بهم كأشخاص وبسماتهم الفردية سواء كانت سمات إيجابية أو سلبية، وليس بدورهم الأكاديمي معنا، قد يكون السر في موقف إنساني حميد، أو في ابتسامة بشوشة كل صباح فأحببنا ما تلقيناه من صاحب السمة اللطيفة من علم وارتبطنا بمادة يدرسها، أو قد يكون في قسوة وخوف شعرنا به كلما رأينا ذلك المعلم أو تلك المعلمة، مما ولد لدينا نفورًا تامًا من تلك المادة التي يدرسونها، وإن كانت تلاقي استحسانًا منا وتوافقًا مع مهارتنا قبل مقابلتنا لهم.
عمق الأثر هذا يعني أن المعلم لا يقتصر دوره في حياة طلابه على تمكنه من مادته العلمية فقط، ولكن المعلم يشغل بالنسبة لتلاميذه حيزًا كبيرًا من الأثر في نفوسهم خاصة في مرحلتي الطفولة والطفولة المبكرة، هذا بجانب دور المعلم الكبير في التعليم الأكاديمي للطلاب الذي يكاد يفوق دور آبائهم في بعض الحالات، مهنة التعليم هي مهنة جليلة تستحق التقدير والاحترام، ولكنها أيضًا مسؤولية عظيمة تستحق بذل الجهد اللازم لأثرها في نفوس الأطفال. فكيف يكون المعلم معلمًا جيدًا؟
المسؤولية الأكاديمية للمعلم
أول ما يبحث عنه الآباء عند اختيار معلم لأطفالهم هو تمكنه من المادة العلمية التي يقدمها، وهذا بالطبع أمر ضروري، ولكنه لا يكفي وحده، قد يتوفر للإنسان قدر متقدم من العلم في مجال ما، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن لديه القدرة لينقل هذا العلم لأشخاص آخرين لا سيما صغار السن، لذلك يحتاج المعلم لمهارات تساعده على التدريس بكفاءة عالية مثل سلاسة ووضوح العرض، واستخدام التكنولوجيا، والإبداع في الخيال والقصص التي تخدم المحتوى العلمي المراد تدريسه، وتبسيط العلوم وربطها بالواقع الحقيقي وببعضها بعضًا، ومهارات التواصل الفعال مع الطلاب والقدرة على التعامل مع الاختلافات الفردية والقدرات المتفاوتة والأنماط الشخصية المتعددة لكل طفل على حدة، وأن يوفر بيئة تعليمية آمنة للأطفال يستطيع فيها المتعلم أن يسأل أي سؤال مهما بدا ساذجًا، ويفتح المجال للنقاش بين الطفل وزملائه، ويكون مثالًا يحتذى به في تعلم كيفية التعليم عن طريق البحث عن إجابات متعددة للأسئلة ونقدها وتحليلها حتى يصل المتعلم لقناعة ومنهجية وليس لإجابة، فالواقع الحقيقي يبرهن على أن لكل سؤال آلاف الأجوبة، وهذا ما يحتاجه الطلاب طوال حياتهم، لكي يتمكن المعلم من هذا فإنه يحتاج لأن يتعلم باستمرار ويتابع الأبحاث العلمية ولا يتوقف عند حالة أو مستوى معين ويكتفي به.
المسؤولية الإنسانية للمعلم
يقضي الأطفال ساعات طوالًا مع معلميهم، وهذا يجعل المعلم دوره يكاد يماثل دور أبوي الطفل معه في المناحي النفسية، وكما هو مهم للطفل أن يتلقى الحب غير المشروط والدعم والاهتمام والعدل من والديه، فهو أيضًا مهم لأن يتلقاهم من معلميه، المعلم الإنسان هو من يحترم طلابه ويحترم احتياجاتهم الإنسانية، هو الشخص الجدير بالثقة الذي يستطيع طلابه اللجوء إليه عند الحاجة، هو الذي لا يسخر من إجابة خاطئة لطالب يتعلم من خلاله، ولكنه بدلًا من ذلك يناقشه فيما قال ويسأله عن رأيه ويوجهه بلطف وعن وعي بقدراته، هو من يفعل القوانين لتنظيم العملية التعليمية وليس للسيطرة على الطلاب، هو من يتحلى بالصبر بالمرونة الكافية للتعامل مع أي طفل من أي خلفية تربوية ويمكنه الابتسام في وجه الطالب العنيد المشاغب كما الطالب المتفوق تمامًا، هو من يمكنه الضحك واستخدامه بذكاء للمرور من المواقف الصعبة مع الطلاب بسلام دون أن يخل بالعلاقة المغلفة بالاحترام بينه وبين طلابه، هو من لديه القدرة على التخلي عن خطته الموضوعة مسبقًا والتي بذل فيها ما بذل من جهد إن لم تناسب طلابه في هذا التوقيت، هو الذي يعي تمامًا بتعقيداته النفسية والتي لا يخلو منها أحد فيراقب سلوكه ويهذبه أكثر مما يراقب زلات طلابه، ولا يسمح لنفسه الأمارة بالتسلط للتنفيس عما بداخله في نفوس بريئة لا ذنب لها، المعلم الإنسان هو من يمكن أن يعتبره الطلاب مثالًا جيدًا يحتذى به في حلمه وفي غضبه على حد سواء.
معلم واحد وطريقتان مختلفتان للتعلّم
المعلم الأول، يجلس مع أطفال في غرفة مغلقة يطلب منهم أن يحسبوا المساحة السطحية الجانبية لشكل متوازي أضلاع، يعطيهم الأبعاد المطلوبة، ويحاول الطلاب بصعوبة تذكر قوانين حساب المساحة السطحية للأشكال، يشعل روح المنافسة بين الأطفال من الذي سيفوز بالجائزة إن استطاع حساب المطلوب أسرع من زملائه، يحاول المعلم بكل جهده أن يزود طلابه بالمعلومات والتدريبات الكافية لاجتياز الاختبار بأعلى الدرجات.
المعلم الثاني، أخذ الأطفال إلى خارج جدران الفصل فصادفتهم شجرة في الساحة، لجذب انتباههم إليها بأنشودة وقصة عن شجرة عجوز تهون على الأوراق قلقها قبل سقوطها في الخريف، وردد في أنشودته وقصته مرارًا وتكرارًا أن الجذع (أسطواني) الشكل، وهو يقص عليهم قصته لمحوا عصفورًا صغيرًا لديه منقار (مخروطي) فارتجل له دورًا في القصة، ثم بعد انتهائه ذهب معهم لإحضار بعض الألوان واللوحات البيضاء لتزيين فصلهم، ولكنهم ليستطيعوا طلب الكمية المناسبة من اللوحات، يجب أولًا أن يعرفوا مساحة اللوحة الواحدة، ويحسبوا المساحة السطحية الجانبية لحوائط الفصل الذي توصلوا بأنفسهم أنه في الحقيقة شكله متوازي الأضلاع، فشكل الأطفال فريقًا لرفع الطلاب المقاسات، وفريقًا آخر لحساب المساحة السطحية، وفريقًا ثالثًا لحساب عدد اللوحات، وفريقًا رابعًا ليأتي بالأدوات بعد نقاش تم بين كل الفرق.
بعد أن سرت معي في الطريقين أي معلم تحب أن تكون على شاكلته؟ هل ستختار أن تحبس الأشكال الهندسية في قوانين صماء يحفظها الطلاب وهي موجودة حولنا في كل مكان لا تحتاج إلا لعين تراها؟
التدريس مهنة معقدة، إنها لا تقتصر على سكب معلومات في عقول مغلقة بعد تكبيل أيديها عنوة، لا يتعلم المرء علمًا حقيقيًا أبدًا عنوة، إنها مهنة تتضمن التوغل في نفوس بشرية والبناء بداخلها، وهذا يكون بالتعلم أولًا، ثم التخطيط للدروس والأنشطة، والإدارة للفصل ولآلية تعامل الطلبة مع البيئة التعليمية من أدوات ومع بعضهم البعض، والملاحظة والمتابعة لكل طالب، ليس فقط فيما يتعلق بالمادة العلمية، ولكن أيضًا متابعة لسلوكه وحالته الذهنية والنفسية والبدنية، ثم يكون للمعلم دور في التيسير والتوجيه للمتعلمين ومساعدتهم في توفير احتياجاتهم التعليمية، وإيجاد وسيلة عادلة ومنصفة لتقييمهم بعد ذلك تقييمًا يضيء لهم نورًا يدفعهم للأمام لا يحبطهم ويكسر نفوسهم، من يستحق أن يطلق عليه لقب المعلم هو من يستطيع أن يدرس ويعلم أي طفل بل ويتعلم منه أيضًا، ويكون الصمام للعملية التعليمية فيسمح بمرور ما يفيد الطالب ويوقف عنده ما يمكن أن يضره ، ولكنه يعلم أنه ليس محور العملية التعليمية فهذا هو مكان المتعلم نفسه.