الضمير هو مستودع الانسان الذي ينظم فيه القيم والمبادئ والمعايير الأخلاقية حتى يستطيع التمييز بين الصواب والخطأ والمقبول والمرفوض وهو يعمل كالقاضي الذي يحاكم الشخص نفسه ويحاسبه على كل أفعاله ويصدر القرار بالعقاب كاللوم والشعور بالذنب أو المكافأة كالرضا والارتياح والسعادة الداخلية، فكيف للأبوين أن ينموا ويربوا هذا القاضي علي قيم ثابته صائبة منذ الصغر ،ليصبح هو رقيب نفسه ويري الله في كل أفعاله؟
تبدأ شخصية الطفل في التكون من عمر 4-6 سنوات ويبدأ معها الضمير في النمو، فتتمثل في بداية الأمر بسماع صوت توجيهات الوالدين التي يكررونها عليه كصوت داخلي في عقله مما يجعله يتردد في استكمال هذا الفعل أو العند ومخالفه هذا الصوت، وكل هذا يرجع لكيفية اصدارنا نحن كآباء وأمهات لهذه الأوامر وأيضًا لدرجة تفاعلنا معهم ومدي قربنا منهم وتقديرنا لهم وبعض الأشياء الأخرى، والتي تختلف في الأساس حسب المرحلة العمرية التي يمر بها طفلك.
فطبقًا لعالم النفس الأمريكي لورانس كولبرج الذي طوّر نظريته الشهيرة والتي تدعي « Moral Development» من خلال عمله مع الأطفال، حيث يقوم بعرض قصص قصيرة علي مجموعة من الأطفال تحتوي على أحداث وأخطاء أخلاقية ولكنها مبرره بفقر البطل أو مرض احد اقاربه ولذلك يسرق مثلا لهذا السبب ، ومن ثم تحديد الأسباب الكامنة وراء احكامهم التي يطلقونها على بطل القصة بعد سؤالهم سلسلة من الأسئلة عما يرونه من صواب وخطأ في تصرفاته، حيث استطاع هذا العالم التفكير في الأسباب التي أدت لجواب كل طفلٍ ومن ثم تصنيف الإجابات إلى مراحل مختلفة، وجد أن الأسباب تتغير مع تقدم الأطفال في العمر:
ففي المرحلة الأولي (سن ما قبل المدرسة):
لا يعرف الطفل معني المبادئ أو القيم ولا يعرف تحديدًا الفرق بين الخطأ والصواب، لكنه يتخذ قراراته الأخلاقية بناءًا على تأثيرها عليه هو فقط، فهو يركز على العواقب الفردية، ولذلك ينصب تركيزه على الطاعة والعقاب ويعتقد أن هناك قواعد ثابته مطلقة يجب الالتزام بها دون نقاش فقط لتجنب العقاب حتى لا يواجه مشكله.
أما المرحلة الثانية من التطور:
يدرك الطفل أنه يجب أن يصبح جيدًا في نظر من حوله فهو جزء من المجتمع، وبتقدمه في العمر عند 9 سنوات حتى بداية المراهقة يصبح فهمه للتعريف الاجتماعي للأخلاق أوضح، وبعد أن كان يركز على ذاته فقط ويتجنب العقاب والمشاكل، تصبح معتقداته أكبر وقواعده ومبادئه تنصب للنظر علي من حوله ليصبح جيدًا في نظر المجتمع، ويشعر بضرورة الحفاظ على النظام المجتمعي ويستطيع إدراك السلوك المنحرف الغير أخلاقي لأنه يضر بالمجتمع ويهز نظامه.
في المرحلة الثالثة:
ينشأ وعي الطفل بالضمير عند البلوغ ويحدد اختياراته وفقًا لمعاييره ومبادئه ومعتقداته الأخلاقية، ويعتبر التطور في هذه المرحلة أكثر تعقيدًا حيث يبدأ بادراك إمكانية وجود تعارض بين ما هو مقبول اجتماعيًا وما يعتقده هو بأنه مقبول ، فيتجاوز من مرحلة ضرورة الالتزام بقوانين المجتمع إلى مرحله الالتزام بمبادئ الأخلاق التي تحكم البشر ككل، وهنا ينشأ الوعي بالضمير ويحكم ويقرر أفعاله من خلال المبادئ التي اكتسبها في المراحل السابقة والتي يدافع عنها حتي لو خالف المجتمع واضطره ذلك لتحمل العواقب، وقد ذكر كولبرج ذكر أن هناك بعض البالغين عالقين في المرحلة السابقة ولا يستطيعون بلوغ هذه المرحلة الناضجة.
كيف يستفيد الأبوين من هذه المراحل؟
تخبرنا هذه المراحل أن التعامل مع الطفل من ناحية الأخلاق تعتمد على مرحلته العمرية قبل أي شيء وبالتالي لا تلجأ لعقاب طفلك على تصرف غير مقبول أخلاقيًا وهو لا يزال في مرحلة أقل في تطور ضميره، فيجب أن تنظر أولاً للأسباب التي دفعته لهذا التصرف وتتحدث معه لتساعده أن يفرق بين الصواب والخطأ والتأكيد على تصحيح ما فعله.
فمعرفتك أن طفلك في المرحلة الأولي ويركز على العقاب كنتيجة لتصرفه الخاطئ ستتغير حتمًا رد فعلك اتجاهه عن معرفتك بأنه في مرحلة يعي بها معايير المجتمع وقيمه وجوده ودوره في هذا المجتمع والتي تختلف كليًا عن معرفتك بنضجه وأنه واعي الضمير وأنه قد تتعارض أفكاره ومبادئه مع المجتمع حوله.
وكما أن هذه المراحل تتطور يجب أن يتطور تربيتك لطفلك وتختلف طريقتك معه حول تصرفاته فقد تجد نفسك في مرحلة ما تعلمه أن هذا التصرف جيد أو سيء لأسباب معينه ثم تعلمه في مرحلة لاحقه عن وجود وجهات نظر مختلفة حسب الشخصيات حول نفس التصرف وقد يخطأ الناس لأسباب معينه دون أن يعني ذلك أنهم سيئون وهكذا من التطورات.
وهنا سنعرض خمس نقاط هامة يجب مراعاتها اثناء تربية ضمير طفلك في مراحله المختلفة:
1. القدوة الحسنة
يكتسب الطفل الكثير من السلوكيات والمعايير الأخلاقية عن طريق التقليد حيث توجد داخل المخ خلايا Mirror Neurons هي المسؤولة عن التقليد منذ الولادة، والأسرة هي أكثر بيئة يحاكيها الطفل والتي تتمثل في الأبوين ومع مرور الوقت يتبني هذه السلوكيات والأفعال التي بدأت لمجرد تقليد حتى تصبح جزء من ضمير الطفل واساسيه في معاييره، لذا يجب على الأبوين تقديم قدوة حسنة لأطفالهم والالتزام بالمعايير الأخلاقية الصائبة.
- إن حدث وأخطأت أمام طفلك فعليك الإسراع بالاعتذار ومحاولة اصلاح ما افسدته كي تعلمه ثقافه الاعتذار وأنه يزيد الشخص قوة وليس تعبيرا عن الضعف، كما أنه يعلمه الاعتماد على النفس ويبني لديه معايير قوية داخله كي لا يترك الخطأ ولا يتجاهله.
- يجب أن تتطابق أقوالك مع أفعالك، فلا توجه طفلك لعدم الكذب وأنه سلوك سيء وحرمه الله تعالي وتأتي أنت وتطلب منه أن يكذب بإبلاغ المتصل أنك لست موجود، أو أن يكذب بحجه المزاج مع شخص ما او هذه الأفعال التي لا نلقي لها بالاً لكنها في الواقع لها تأثير بالغ الخطورة على أطفالنا حتى لا يدخل في تذبذب وحيره من أفعالك وأوامرك.
- عليك أن تأخذ موقف واحد تجاه الخطأ، فلا تقبل فعل من طفلك أثناء هدوء بالك وتعتبره خطأ يجب أن يعاقب عليه فقط نتيجة أعباء الحياة عليك، فلا تجعل ضغوط الحياة تؤثر على رفضك وقبولك لأفعال طفلك حتى لا تحدث تشويشًا وارباكًا في معايير طفلك الداخلية بين الصواب والخطأ.
- الحب الغير مشروط يلعب دور أساسي في بناء علاقة إيجابية بينك وبين طفلك والتي بدورها تبني ضميره الداخلي لنموه في اسرة يسودها الحب والتفاهم فينشأ متزن عاطفيًا يهتم بأمور من حوله ويراعي غيره في تصرفاته وينمو ضميره بشكل سوي.
2. بناء الشخصية
تأتي بناء شخصية الطفل في المقام الأول لبناء ضميره، فلا تهتم بجعل طفلك يخاف منك ويرتعد من كلامك وأوامرك له فبمجرد أن ترحل او يحدث موقف لست بجانبه فيه سيفعل عكس ما تمليه عليه حتي يشعر بالاستقلال، حيث يبدأ الطفل من سن الثامنة في البحث عن الاستقلال والشعور بأن النضج هو تنفيذ ما يريد وليس ما يمليه عليك أحد خاصةً الأبوين، وهذا الشعور يجب أن ننميه ولا نقف أمامه لنمنعه، بل نساعد الطفل علي تصحيح ما يريد فعله وتوجيه المفاهيم الداخلية لضميره.
وهذا يمكن باستخدام القصص والحكايات التي تطور صميره وتجعله يفهم لماذا يشعر بالندم او كيف يشعر بالراحة والسكينة وكيف يعاقبنا الله علي أفعالنا السيئة وبذلك يراقب الله في تصرفاته ويخشي عقابه وليس عقاب الأبوين، فالله يراه في كل مكان حيث وجد وليس كالأبوين الذين بدورهم سيتركونه في بعض المواقف ويمكننا تلخيص بناء الشخصية فيما يلي:
- احترام الاستقلال وأن طفلك شخص كامل مختلف وليس ظلاً لك.
- تنمية الثقة بالنفس ودفعه للالتزام بوعوده والتصرف من وجهه نظره ثم التعليق بالتوجيه فقط دون اللوم والعتاب.
- غرس مراقبة الله في تصرفاتنا حيث يعرف الله ما نفكر به ولا يرى أفعالنا فقط، وأن هناك ملائكة يسجلون ما نقوم به من خير وشر.
- الحرص على مراقبة النفس ومراجعة أفعالنا قبل النوم بالحديث مع طفلك عن أفضل ما فعل خلال اليوم وأسوأ ما فعله وما أخطأ به وما فعله من صواب وكيف يتجنب الأخطاء وكيف له أن يصلحها في اليوم التالي، وكل ذلك نستخلصه من الطفل نفسه حتى ينمي ضميره ويفهم مراقبة نفسه، دون التدخل بأوامر ولوم.
- استخدام القصص التي تدعو للالتزام بالوعود وتنميه المعايير الأخلاقية وتجنب الأخطاء وكيفية إصلاحها.
3. العواقب المنطقية
يميل معظم الآباء والأمهات للثواب والعقاب اعتقادًا منهم أن هذا الذي يبني طفل صحيح الضمير، متناسين أن كثرة العقاب تجعل الطفل يشعر بالسيطرة عليه من الأبوين والتوجيه الدائم ولا يفعل تصرفاته من تلقاء نفسه بل فقط لمجرد أن يتجنب عقابهم، ولكن هناك فارق بين العقاب والعاقبة، فهناك عاقبة لكل تصرف متفق عليها فيما بينكم يفعلها الطفل بعد ذلك من تلقاء نفسه لأنها تُبني في داخل ضميره، فمثلاً (عندما يسكب العصير على الأرض عليه أن ينظفه بنفسه) وليس يعاقب بالضرب ويدخل غرفته لكي ينعزل عنكم لأنه تصرف بشكل غير جيد،
وأيضًا (عندما تحذره أن القفز علي الكنبة خطر ويمكنه أن يسقط) فأنت غير مضطر لضربه لكي يتوقف عن هذا الفعل بل اتركه يفهم وحاول أن تساعده عند السقوط وبعدها لن يكررها مره أخري، تمامًا كتحذيرك له من شرب الشاي الخاص بك وهو ساخن جدًا عليه، بل اتركه يجرب حتي يعرف ماهي عاقبة تصرفه وأنت ما عليك سوي توجيهه فقط،
وهذا المنوال علي معظم السلوكيات والأفعال وفي أثناء الدراسة ليس عليك أن تعاقبه لأنه لا يريد عمل واجباته بل اتركه يذهب إلي المدرسة دون عمل واجباته ليعرف ما نتائج فعله، وليس عليك سوي تحذيره وتوجيهه ثم تركه يفعل ويقرر بعد ذلك في المرة القادمة، فاحرص على استثمار المواقف التي يمر بها طفلك أو يشهدها، لتؤكد لديه بعض المعايير، حتي وان كانت لطفل آخر أراد أن يفعل كذا وحذره احد ابويه وفعله بالعند لكي يري العواقب المنطقية لتصرفات الآخرين أيضاً.
4. تجنب
- العنف او الضرب يدمر شخصية الطفل ولا يجعله سوي نفسيًا وبالتالي يصبح لديه خلل في السلوك.
- اللوم والتقطيم وكثرة النقد فهذا يجعله منبوذا ويشعره بأنه شخص سيء عديم الفائدة، فيكون رد فعله عدم تنفيذ أقوالك والنفور منها.
- الالحاح في طلب تنفيذ الأوامر وملاحقته بما يجب أن يفعل وما يجب ألا يفعل، فهذا قد يدخله في حاله مرضية من الوسواس وضعف الشخصية نتيجة لجلد الذات المستمر.
5. تأسيس الوعي
عليك أن تنمي ادراك طفلك وتنتبه لمستوي معرفته وادراكه العقلي لفهم هذه القيم، فلا تطلب من طفلك أن يلتزم بتصرف أكبر من عمره ولا يستطيع أن يفهمه، كما يجب أن تشرح لطفلك سبب رفضك لهذا السلوك ولماذا هو غير مقبول لكي يستطيع أن يبني معاييره داخل ضميره حتي يتصرف في غيابك بعد ذلك في المرات القادمة، وعندما تنهيه عن فعل خاطئ يجب عليك أن تعطيه البديل حتي يستطيع معرفة ما يجب عليه فعله وليس معرفه المرفوض وحسب.
واجتهد لتوجيهه بشكل عملي فإن رأيته يغش في اللعب مع أخوته أو اصدقاؤه فلا تنهره وتخبره أنه يفعل شيء خاطئ ومرفوض وحسب بل اشرح له بشكل عملي كيف يلعب وعلمه ما يفعله بالخطوات، ومن خلال الألعاب الجماعية التي تعتمد على قيم العدالة والتعاطف والتعاون، تستطيع تعليم طفلك أن الالتزام بقواعد اللعبة نابع من صوابها وأخلاقيتها لا من محاولته لتجنب العقاب وأن الشعور بالنجاح بعد الاجتهاد بشرف يكن أحلي من النجاح بالغش.
ومازال هناك الكثير من المحاولات لفهم كيفية تطور الطفل أخلاقيًا وكيفية تكون حسّه الضميري سواء في الفلسفة أو الدين أو علم النفس، ومع اختلاف قيم المجتمع وتطوره السريع يصبح من الصعب على الأسرة تربية طفل ناضج الضمير ولكنها مهمة قد تصبح سهلة بترسيخ القيم من الصغر ،، وقبل كل هذا تمحور الأسرة علي قيم ومعتقدات محددة ثابته تجعل من الطفل صاحب ضمير يقظ لما يراه بشكل عملي من أفعال وتصرفات، فابدأ بنفسك حتي ينشأ طفلك ذو ضمير سوي.