منذ أعوام قليلة، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صور إحدى حملات التوعية البرازيلية لأمهات يرضعن أطفالهن وقد تم تصميم أثدائهن لتصبح على شاكلة “سندوتش هامبرجر” أو كوب عملاق من المياه الغازية. كانت الحملة محاولة لتشجيع الأمهات على اتباع نظام غذائي صحي أثناء فترات الحمل والرضاعة، لكن التساؤلات وقتها تحولت إلى: «هل أرضع طفلي لو تناولت طعامًا غير صحي؟ هل يتغير محتوى لبن الأم يوميًا وفقًا لما تأكله؟ هل يصل للطفل الفائدة من طعام الأم الصحي كما يصله الضرر؟ هل يمكن أن يرفض طفلك الرضاعة بسبب تغير طعم اللبن؟».
لحظة.. هل يتغير طعم اللبن حقًا؟ هذا ما سنعرفه.
الذهب السائل
لبن الأم هو إحدى أعجب معجزات الجسد البشري، فهو ليس مجرد مشروب الطاقة السحري المناسب للرضّع وحسب، بل هو نسيج حي، إذا وضعت قطرة منه تحت المجهر ستجرى خلايا بشرية حية، وإنزيمات هاضمة، وأجسامًا مضادة، وخلايا جذعية، هذا بالإضافة إلى المركبات الكيميائية الفريدة من نوعها والتي تختلف في خصائصها عن أي نوع لبن آخر من ألبان الثدييات، فألبان الثدييات كلها مصممة بعناية لتناسب رضيع كل فصيلة، فاحتياجات رضيع «الفقمة» تختلف عن رضيع الماعز الجبلي. كما تختلف خصائص لبن الأم بالطبع عن الألبان الصناعية، التي هي في الأغلب لبن بقري معالج ليقترب قدر الإمكان من مواصفات لبن الأم حتى يمكن استخدامه عند الضرورة.
بل إن محتويات لبن كل أم تختلف عن غيرها، وفقًا لعمر طفلها، وموعد ولادته، وحالته الصحية، ودرجة حرارة البيئة المحيطة بهما، والبيئة الجغرافية من كوكب الأرض، بل وكونه ذكرًا أم أنثى! بل إن لبن الطفل الواحد نفسه يتغير على مدار شهور الرضاعة، وعلى مدار اليوم الواحد، بل ويختلف من بداية الرضعة حتى آخرها.
هل يتغير طعم اللبن بنكهات الطعام المختلفة؟
مع هذه الديناميكية الشديدة التي يتسم بها لبن الأم، ظهر تساؤل آخر: «هل يمكن أن يتغير طعم اللبن وفقًا لما تتناوله الأم؟ هل يتذوق نفس الطفل من نفس الأم لبنًا بنكهة الفانيليا تارة ولبنًا بنكهة الثوم تارة أخرى؟»، بل إن بعض الدراسات لم تقف عند هذا الحد، بل ذهب بهم التساؤل إلى بحث الأثر المحتمل لهذا التغير في النكهات على تفضيلات الطفل للطعام وسهولة تقبله له فيما بعد، وكانت النتائج مبهرة بحق.
مبدئيًا وُجد أن الرضاعة الطبيعية في حد ذاتها تجعل من الطفل أكثر انفتاحًا وتقبلاً للطعام فيما بعد مقارنة بالرضاعة الصناعية مثلاً، وقد ذهبت بعض التفسيرات إلى أن هؤلاء الأطفال قد يكونون أكثر اتصالاً مع احتياجاتهم الجسدية وأوضح تعبيرًا عنها كنتيجة لنمط الاستجابة الفوري لاحتياجاتهم البيولوجية من قِبَل الأم، الأمر الذي يكون أكثر وضوحًا واستقرارًا في حال الرضاعة الطبيعية. كما لوحظ أن أمهات الرضاعة الطبيعية يكُن أقل تحفظًا وتدخلاً في تحجيم وجبات الطفل ومراقبتها، بشكل يمكن تفسيره أيضًا بثقتهن في قدرة أطفالهن على التعبير عن الجوع والشبع بشكل مناسب.
كما وجد أن الأطفال الذين يتعرضون لنكهات معينة عبر لبن أمهاتهم كان تقبلهم لهذه النكهات أفضل من غيرهم، ولم يكن بالضرورة تفضيلهم لهذه الوجبات دونًا عن غيرها، لكنهم لم يبدوا امتعاضًا عند تجربتها طعامًا صلبًا للمرة الأولى، بل كانت تعبيراتهم أقرب إلى الاعتياد أو المعرفة المسبقة. وهنا يتحقق الغرض من نصيحة الجدات بـ«تلحيس» الطفل من طعام أمه حتى يسهل تقبله للأكل فيما بعض، فالرضاعة الطبيعية تحقق هذا الغرض بالفعل دون الحاجة لتعريض الطفل للطعام الصلب قبل نهاية الشهر السادس من عمره.
ربما لا يستهويك تذوق اللبن بنكهة الكوسة، لكنه قد يكون السر في سهولة تقبل طفلك لوجبة الكوسة في عمر أكبر. لكن، هل كل الأطعمة طيبة الأثر؟
طعام سيئ السمعة
الكثير من نصائح الجدات أيضًا تحذّر الأمهات من تناول البصل والثوم، وتربط بين بعض الأكلات وما ينتاب الطفل من نوبات مغص شديد أو عدم استقرار نومه، وربما تلحظ بعض الأمهات هذه العلاقة بالفعل، الحقيقة هي أن وقوع ضرر على الطفل من لبن أمه بسبب صنف معين من الطعام دونًا عن غيره -ما دام باعتدال- يكاد يقتصر على بعض حالات حساسية الطعام، والتي يمكن السيطرة عليها بتوفير نظام غذائي مناسب للأم يخلو من عوامل التحسس، ومتابعة الطفل مع طبيب متخصص ليوجِّه مسألة إدخال الطعام الصلب للطفل بعناية وفي توقيتات محددة.
المشكلة ليست في منع أحد صنوف الطعام، بل عندما تطول قائمة الممنوعات وتمتد لتطال الكثير من مكونات الوجبات اليومية والأساسية للأم، واضعة بذلك عبئًا نفسيًا عليها في محاولة تجنب العديد من أطعمتها المعتادة، بل وقد يصل بها إلى استثقال مسألة الرضاعة برُمّتها، والسعي لإنهائها مبكرًا عمّا خططت له، فبعد تسعة أشهر من مراقبة كل ما يدخل جوفها من طعام وشراب ودواء حتى لا يمسّ جنينها سوء، تجد الأم نفسها في نفق مستمر من الحرمان قد يصل إلى عامين كاملين، أعرف أمهات يتحرّقن شوقًا لفصال أطفالهن حتى يتمكّن من الاستمتاع بفنجان من القهوة، ظنًا منهن أنها من الممنوعات المطلقة للرضاعة الطبيعية، وهي لا تؤثر ما دامت لا تزيد على الحد المسموح (فنجان في اليوم) وليس بشكل مستمر لن يضر طفلك، مع توخي الحرص في الأطفال الخدج والمولودين حديثًا، وهنا تأتي الإجابة عن سؤال هام للغاية: هل تمتنع الأمهات عن الرضاعة الطبيعية إذا كان غذاؤها غير صحي؟ الإجابة: لا.
من رحمة الله أن كان تصميمه الفريد لجسد الأم بأولويات الحفاظ على رضيعها، فالقليل من مكونات لبن الأم هي التي تتأثر بسوء تغذيتها، وكذلك كمية اللبن التي تحتاج صيامًا طويلاً أو سوء تغذية مفرط حتى تتأثر. بل يمكن القول إن طاقتك ونشاطتك وصحتك بشكل عام ستتأثر قبل أن يتأثر رضيعك.
القاعدة الذهبية في التغذية: لا إفراط ولا تفريط، مع إبقاء عين متيقظة على جسمك وجسم طفلك. فلا داعي من شرب جالونات اللبن حتى تضمني الوصول لحصّة الكالسيوم المطلوبة، ولا داعي للجلوس بعيدًا عن أي طاولة تحتوى بعض الثوم. يمكنك ببساطة التأكد من أن كمية طعامك لا تؤثر على إرضاع طفلك بمجرد إضافة وجبة أو وجبتين خفيفتين على مدار اليوم بحيث تضيفي نحو 500 سعر حراري فقط إلى سعراتك الحرارية المطلوبة، وهي متوسط السعرات التي يتم حرقها في عملية بناء اللبن. نعم، تكوين اللبن يتطلب سعرات حرارية، فيمكنك إضافة الرضاعة كإحدى طرق خسارة الوزن الصحية والتدريجية.
الرضاعة تساعد على فقدان الوزن
عندما أخبر الأمهات أن الرضاعة قد تساعد على فقدان الوزن، يقابلني وجه متعجب مستنكر، ويبدأ في سرد الحكايات عن قائمة طويلة من معارفهن كانت الرضاعة سببًا في ازدياد أوزانهن. الخلاف بيننا يقع في أن أطروحتي لا تحتوى على آنية المُغات بالسمن البلدي، وعلب الحلاوة الطحينية ذات الحجم العائلي، وأزواج البط والدجاج التي تهتم الجدات بوضعها محل الطفل فور ولادته، والتي يصلح عددها في بعض الأحيان لتعليم الأطفال جدول الضرب. لا إفراط ولا تفريط كما ذكرنا.
صحيح أن احتياجاتك الغذائية تختلف قليلاً أثناء الرضاعة، وقد يتزايد شعورك بالجوع والعطش أحيانًا، لكن لتكن استجابتك لذلك باختيارات صحية بدلاً من الوجبات ذات السعرات الحرارية العالية والقيمة الغذائية القليلة. ويمكن القول إن التزامك بنمط تغذية صحي مناسب لعمرك ووزنك وطبيعة نشاطك هو أفضل ما يمكن تحقيقه، وإضافة بعض السعرات الحرارية الإضافية هنا وهناك على مدار اليوم لن يكون مشكلة كبيرة، مع مراعاة تحجيم الكافيين إلى 300 مللي على مدار اليوم (أي بمعدل كوبين أو ثلاثة من القهوة مثلاً)، ولا ضرورة من منعه مطلقًا إلا إذا لاحظتِ بوضوح تأثر طفلك سلبًا به، أو بأي طعام أيًا ما كان نوعه أو سمعته، فجسدك وجسد طفلك هما الحكم هنا.
عزيزتي الأم.. شهور الرضاعة تعتبر شهورًا ذهبية للتمرّس على نمط حياة صحي بشكل عام، فاستغلي حماستك وتأهبك طوال فترتي الحمل والرضاعة في غرس عادات دائمة بدلاً من دفع الأيام برتابة حتى تنتهى الرضاعة، ستتحول أيامك إلى تجربة مفعمة بالتغيير الإيجابي لا مهمة ثقيلة تنتظرين انقضاءها حتى تتوقفي عن إخفاء زجاجات المياه الغازية تحت السرير.
وختامًا.. لا تفرطي في تناول البسبوسة، فقد ذاقها طفلك بالفعل وقد يطالب بنصيبه منها قريبًا.