كنت أقرأ عن الفاكهة حين وقع بصري على اسم فاكهة «الرامبوتان»، كل ما جاء في عقلي وقتها هو تلك الثمرة غريبة الشكل والتي تنمو شجرتها في شرقي آسيا، المعلومة الوحيدة التي قرأتها على الإنترنت عنها، بعد زمن تسنت لي الفرصة أن أجرب تلك الفاكهة بنفسي، ومن وقتها حين تقع عيني على كلمة «رامبوتان» أجد عقلي يستدعي تلقائيًا ملمسها ولونها ورائحتها وطعمها وطريقة تقطيعها.
إن الكلمات المجردة التي نجدها على الورق تحمل معاني بقدر الخبرات الحسية الحقيقية التي اختبرناها بأنفسنا في الواقع، نفس الكلمة قد تعني الكثير لشخص ما، وقد لا تعني أي شيء مطلقًا لشخص آخر، والحساب ليس استثناءً من تلك القاعدة.
الرياضيات موجودة في حياتنا بأشكال مختلفة، وإن لم نختبرها بأنفسنا فإن الأرقام والقوانين الرياضية قد لا تمثل لنا شيئًا حين نجدها على الورق، لذلك فإن الخطوة الأولى ليتعلم طفلك الحساب، هو أن يعيش الحساب ويختبره في حياته اليومية.
التسلسل الأمثل لاكتساب المهارات الحسابية
في المقال السابق: «تعليم الرياضيات بنهج المنتسوري»، تحدثت معكم عن المهارات المهمة التي ستفيد الطفل كثيرًا إذا اكتسبها قبل أن يتعلم الحساب، وفي هذا المقال سنتحدث عن خطوات تعلم مهارات الحساب نفسه، والتي تتبع نمطًا ثابتًا في تسلسل اكتسابها وهو:
1. إدراك الكميات
بمعنى أن يدرك الطفل المهارة بطريقة ملموسة باستخدام أدوات حسية، فيتعلم الجمع عن طريق إضافة مجموعة من الخرز لمجموعة أخرى، ويتعلم الكسور عن طريق تقسيم شرائح البيتزا.
2. تعلم الرموز
بمعنى أن يتعلم الرموز المجردة والتي يجدها مكتوبة على الورق، فيعرف مسمياتها ليستخدمها في التعبير عن أفكاره.
3. دمج الكميات والرموز
بمعنى أن يتدرب الطفل على مطابقة الرمز مع الكمية الدالة عليه، ويتدرب على التحويل بين الملموس والمجرد لفترة طويلة كافية لتكوين خبرات حسية مكتملة في ذهنه.
4. التعامل بالرموز
تبدأ هذه المرحلة في العام السابع من عمر الطفل، حيث يتخلى تدريجيًا عن الأدوات الحسية، ويتقن فهم واستخدام الرموز المجردة على الورق، والتي تعني له الكثير بفضل ما اكتسبه في المرحلة السابقة، مع الأخذ في الاعتبار عند تقديم قانون أو مفهوم حسابي جديد فإننا نقدمه باتباع الخطوات السابقة دون النظر إلى العمر، فنظرية فيثاغورس مثلًا تُقدم أولًا باستخدام أدوات ملموسة قبل الانتقال لرموزها.
كيف نبدأ؟
في نهج منتسوري للطفولة المبكرة تنقسم دروس الرياضيات لعدة مواضيع رئيسية متسلسلة وهي:
- الأعداد من 1 إلى 10.
- النظام العشري «آحاد، عشرات، مئات، آلاف».
- العمليات الحسابية «الجمع، الضرب، الطرح، القسمة».
- الكسور.
وكل موضوع من تلك المواضيع يتبع النمط الذي ذكرناه آنفًا في اكتساب المهارة بالنسبة للطفل، دعونا نبدأ بالموضوع الأول، وهو الأعداد من واحد لعشرة، لتوضيح الفكرة.
أ. إدراك الكميات
حسب النمط السابق، فإن الطفل عليه أن يدرك كميات تلك الأعداد أولًا قبل أن يتعلم رموزها، وهو خطأ شائع يقع فيه معظم الآباء حيث يسارعون بتعليم الطفل رموز الأرقام، والتي لا تعني للطفل شيئًا طالما لا يدرك قيمتها، يستطيع الطفل أن يدرك قيمة الأعداد عن طريق الخبرات اليومية التي يمكن أن يتعرض لها، ففي غرفته سرير واحد، وله قدمان اثنتان، وأسرته تتكون من ثلاثة أفراد، والسيارة لها أربعة إطارات، وفي يده خمسة أصابع، وهكذا.
تحدث مع طفلك باستمرار عن عدد الأشياء من حوله، قم أمامه بعد الملاعق اللازمة لتجهيز طاولة الطعام، وعد التفاحات التي تملأ السلة، والجوارب التي تحتاج للطي، أي شيء في حياته اليومية هو فرصة رائعة للتعلم.
في نهج منتسوري نستخدم أداة أعمدة العد، لتقديم كميات الأعداد من واحد إلى عشرة، حيث يعبر كل عمود منهم عن كمية رقم ما، نقدم الأداة للطفل ليقوم بترتيب الأعمدة تصاعديًا أو تنازليًا حسب الطول، وقد كان تدرب على تلك المهارة سابقًا باستخدام أداة مشابهة في ركن الأنشطة الحسية، لذلك فهو يتقن تلك الخطوة سريعًا، بعدها نخبره باسم العدد المعبر عن كل كمية، فذلك العمود يعبر عن الواحد، أما هذا فيعبر عن الثلاثة، وهكذا.
وبالتالي فالطفل هنا يرى كمية الرقم بعينه، ولا يرى رمزه.. يمكنكم صناعة أداة مشابهة بالمنزل باستخدام المكعبات مثلًا:
ب. تعلم الرموز
الآن وقد حفظ الطفل مسمى الرقم وأدرك قيمته، ففي تلك الخطوة سنقدم له الرمز الذي نعبر به عن تلك القيمة، أي أنه ليخبر صديقه أنه يمتلك خمسة أقلام، ليس عليه أن يرسم خمسة أقلام على الورقة، لكن يمكنه أن يرسم قلمًا واحدًا بجانب الرقم 5، فالرموز تسهل علينا التعبير عن أفكارنا أو معرفة أفكار غيرنا.
في نهج منتسوري نستخدم لتلك الخطوة أداة بطاقات الأرقام المصنفرة، وهي عبارة عن بطاقات خشبية باللون الأخضر، مثبت عليها رموز الأرقام مصنوعة من مادة خشنة قليلًا كورق الصنفرة مثلًا، ليتحسسها الطفل بإصبعه في اتجاه كتابتها الصحيح، ليختزنها في ذاكرته بصريًا وسمعيًا وعن طريق حاسة اللمس أيضًا.
يمكنكم صناعة أداة مشابهة في المنزل أو استخدام أي بطاقات متوفرة لديكم لتلك الخطوة، وينصح بتقديم عدد محدود من الرموز في المرة الواحدة، ثلاثة رموز مثلًا، وبعد أن يتقنها الطفل نقدم ثلاثة رموز أخرى، وهكذا.
ج. دمج الكميات مع الرموز
الآن وقد تعلم الطفل الرقم وقيمته، فقد حان وقت التدرب على مطابقة كل رقم مع القيمة الدال عليها، فسيقوم بمطابقة بطاقات الرموز مع أعمدة العد
في النشاط السابق نلاحظ أن الكميات كانت ثابتة، بمعنى أن العمود المعبر عن خمسة لا يمكن تجزئته إلى خمس وحدات منفصلة، ولكنه كمية واحدة تعبر عن الرقم، بينما بطاقات الأرقام بيد الطفل متناثرة ليقوم بمطابقتها مع الأعمدة.
في النشاط التالي سنقوم بعكس الأمر، حيث سنقدم للطفل الرموز مرتبة ومكتوبة وثابتة في مكانها، بينما الكميات بيد الطفل ستكون متناثرة ليقوم بمطابقتها مع الرموز، وفي ذلك النشاط نستخدم أداة صندوق المغازل، وهو عبارة عن صندوق به عشر حجرات، كل حجرة تحمل رمزًا من صفر إلى تسعة، ومع الطفل عدد 45 مغزلًا ليقوم بوضع العدد الصحيح في كل حجرة، وهنا أيضًا يتعرض الطفل لمفهوم الصفر لأول مرة والذي يعني لا شيء.
استخدمت ماريا منتسوري المغازل حيث كانت شائعة ومتوفرة في وقتها، لذلك يمكنكم استخدام أي أداة متوفرة في بيئتكم لتقديم نشاط مشابه لطفلكم
في تلك المرحلة سيستطيع طفلك أن يخبرك بسهولة أن السبعة أكبر من الواحد، وأن التسعة أكبر من كليهما، بل ويمكن أن يفاجئك باكتشافاته الرائعة حين يلاحظ أن الثلاثة مع الخمسة كمية مساوية للثمانية، أو أنه إذا أخذنا أربعة من الستة يتبقى لدينا اثنان، وبهذا فهو مستعد لفهم العمليات الحسابية، فالأرقام بالنسبة له ليست مجرد نشيد يحفظه أو كلمات يرددها، بل خبرات حقيقية يستكشفها ويعمل بها، وهو ما يجب أن يكون عليه تعلم الحساب دائمًا.